فصل: (الْحَيْضُ من موجبات الغسل الحيض):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [النِّيَّةُ فى الغسل]:

اخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شُرُوطِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ النِّيَّةُ أَمْ لَا؟
كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوُضُوءِ: فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ شُرُوطِهَا، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالْحَالِ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الطُّهْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوُضُوءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ]:

اخْتَلَفُوا فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وتخليل الرأس فى الغسل فِي هَذِهِ الطَّهَارَةِ أَيْضًا كَاخْتِلَافِهِمْ فِيهِمَا فِي الْوُضُوءِ (أَعْنِي: هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ فِيهَا أَمْ لَا؟
) فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُمَا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ فِيهَا، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهِمَا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِهِمَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِهِمَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي نُقِلَتْ مِنْ صِفَةِ وُضُوئِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي طُهْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي نُقِلَتْ مِنْ صِفَةِ وُضُوئِهِ فِي الطُّهْرِ فِيهَا الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ لَا بِمَضْمَضَةٍ وَلَا بِاسْتِنْشَاقٍ، فَمَنْ جَعَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَمَيْمُونَةَ مُفَسِّرًا لِمُجْمَلِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أَوْجَبَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، وَمَنْ جَعَلَهُ مُعَارِضًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ حَمَلَ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ عَلَى النَّدْبِ، وَحَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ بِعَيْنِهِ اخْتَلَفُوا فِي تَخْلِيلِ الرَّأْسِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ فِي هَذِهِ الطَّهَارَةِ أَمْ لَا؟
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَدْ عَضَّدَ مَذْهَبَهُ مَنْ أَوْجَبَ التَّخْلِيلَ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ وَبُلُّوا الشَّعْرَ».

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [الْفَوْرُ وَالتَّرْتِيبُ]:

اخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ الْفَوْرُ وَالتَّرْتِيبُ فى الغسل، أَمْ لَيْسَا مِنْ شُرُوطِهَا كَاخْتِلَافِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ؟
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: هَلْ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟
فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ مَا تَوَضَّأَ قَطُّ إِلَّا مُرَتَّبًا مُتَوَالِيًا، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي هَذِهِ الطَّهَارَةِ أَبْيَنُ مِنْهَا فِي الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ بَيْنَ الرَّأْسِ وَسَائِرِ الْجَسَدِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِي الْمَاءَ عَلَى جَسَدِكِ» وَحَرْفُ (ثُمَّ) يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ نَوَاقِضِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَقَوْلُهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الْآيَةَ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ مِنْ حَدَثَيْنِ:

.[خُرُوجُ الْمَنِيِّ من موجبات الغسل]:

أَحَدُهُمَا: خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ مِنْ ذَكَرٍ كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلًا مِنْ الِاحْتِلَامِ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى مُسَاوَاةِ الْمَرْأَةِ فِي الِاحْتِلَامِ لِلرَّجُلِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الثَّابِتِ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ تَرَى فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ هَلْ عَلَيْهَا غُسْلٌ؟
قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ»
.

.[الْحَيْضُ من موجبات الغسل الحيض]:

وَأَمَّا الْحَدثُ الثَّانِي الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَهُوَ دَمُ الْحَيْضِ، (أَعْنِي: إِذَا انْقَطَعَ) وَذَلِكَ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الْآيَةَ، وَلِتَعْلِيمِهِ الْغُسْلَ مِنَ الْحَيْضِ لِعَائِشَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [الْوَطْءُ من موجبات الغسل]:

اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سَبَبِ إِيجَابِ الطُّهْرِ مِنَ الْوَطْءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الطُّهْرَ وَاجِبًا فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ أَنْزَلَ أَمْ لَمْ يُنْزِلْ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى إِيجَابِ الطُّهْرِ مَعَ الْإِنْزَالِ فَقَطْ وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ تَعَارُضُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ ثَابِتَانِ اتَّفَقَ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَلَى تَخْرِيجِهِمَا. (قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَتَى قُلْتُ: ثَابِتٌ، فَإِنَّمَا أَعْنِي بِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ). أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَأَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عُثْمَانَ أَنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ إِذَا جَامَعَ أَهْلَهُ وَلَمْ يُمْنِ؟
قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
فَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ النَّسْخِ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الرُّجُوعِ إِلَى مَا عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ عِنْدَ التَّعَارُضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهِ وَلَا التَّرْجِيحُ. فَالْجُمْهُورُ رَأَوْا أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ، وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْغُسْلِ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ هُوَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهِ بَيْنَهُمَا وَلَا التَّرْجِيحُ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ عِنْدَهُ إِلَى مَا عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْمَاءِ مِنَ الْمَاءِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْجُمْهُورُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْخِتَانَيْنِ تُوجِبُ الْحَدَّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ، وَحَكَمُوا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مَأْخُوذٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ لِإِخْبَارِهَا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [صِفَةُ الْمَنِيِّ الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصِّفَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ مُوجِبًا لِلطُّهْرِ. فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى اعْتِبَارِ اللَّذَّةِ فِي ذَلِكَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ نَفْسَ خُرُوجِهِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلطُّهْرِ سَوَاءٌ خَرَجَ بِلَذَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ لَذَّةٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا هَلِ اسْمُ الْجُنُبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الَّذِي أَجْنَبَ عَلَى الْجِهَةِ الْغَيْرِ الْمُعْتَادَةِ أَمْ لَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ؟
فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الَّذِي أَجْنَبَ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ، لَمْ يُوجِبِ الطُّهْرَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ كَيْفَمَا خَرَجَ أَوْجَبَ مِنْهُ الطُّهْرَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ لَذَّةٍ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: تَشْبِيهُ خُرُوجِهِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي خُرُوجِ الدَّمِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحَاضَةِ هَلْ يُوجِبُ طُهْرًا، أَمْ لَيْسَ يُوجِبُهُ؟
فَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْمَذْهَبِ فِي هَذَا الْبَابِ فَرْعٌ، وَهُوَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ أَصْلِ مَجَارِيهِ بِلَذَّةٍ، ثُمَّ خَرَجَ فِي وَقْتٍ آخَرَ بِغَيْرِ لَذَّةٍ مِثْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمُجَامِعِ بَعْدَ أَنْ يَتَطَهَّرَ، فَقِيلَ يُعِيدُ الطُّهْرَ، وَقِيلَ لَا يُعِيدُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخُرُوجِ صَحِبَتْهُ اللَّذَّةُ فِي بَعْضِ نَقْلَتِهِ، وَلَمْ تَصْحَبْهُ فِي بَعْضٍ، فَمَنْ غَلَّبَ حَالَ اللَّذَّةِ قَالَ: يَجِبُ الطُّهْرُ، وَمَنْ غَلَّبَ حَالَ عَدَمِ اللَّذَّةِ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطُّهْرُ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ هَذَيْنِ الْحَدَثَيْنِ (أَعْنِي الْجَنَابَةَ وَالْحَيْضَ):

أَمَّا أَحْكَامُ الْحَدَثِ الَّذِي هُوَ الْجَنَابَةُ، فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [دُخُولُ الْمَسْجِدِ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَوْمٌ مَنَعُوا ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَوْمٌ مَنَعُوا ذَلِكَ إِلَّا لِعَابِرٍ فِيهِ لَا مُقِيمٍ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَقَوْمٌ أَبَاحُوا ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ، وَمِنْهُمْ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ فِيمَا أَحْسَبُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ: هُوَ تَرَدُّدُ قَوْلِهِ: تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الْآيَةَ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ حَتَّى يَكُونَ هُنَالِكَ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ: أَيْ لَا تَقْرَبُوا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، وَيَكُونُ عَابِرُ السَّبِيلِ اسْتِثْنَاءً مِنَ النَّهْيِ عَنْ قُرْبِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَالِكَ مَحْذُوفٌ أَصْلًا، وَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَيَكُونُ عَابِرُ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرَ الَّذِي عَدِمَ الْمَاءَ، وَهُوَ جُنُبٌ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفًا أَجَازَ الْمُرُورَ لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْجُنُبِ الْإِقَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ دَلِيلًا إِلَّا ظَاهِرَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ، وَلَا حَائِضٍ» وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَائِضِ فِي هَذَا الْمَعْنَى هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْجُنُبِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [مَسُّ الْجُنُبِ الْمُصْحَفَ]:

ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى إِجَازَتِهِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَمَسَّهُ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَنْعِ غَيْرِ الْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَمَسَّهُ. أَعْنِي قَوْلَهُ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ الِاخْتِلَافِ فِي الْآيَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَنْعِ الْحَائِضِ مَسَّهُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ]:

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى إِبَاحَتِهِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ الْمُتَطَرِّقُ إِلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ» وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ ظَنٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَحَدٌ أَنَّ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ كَانَ لِمَوْضِعِ الْجَنَابَةِ إِلَّا لَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ؟
وَالْجُمْهُورُ رَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَقُولَ هَذَا عَنْ تَوَهُّمٍ وَلَا ظَنٍّ، وَإِنَّمَا قَالَهُ عَنْ تَحَقُّقٍ. وَقَوْمٌ جَعَلُوا الْحَائِضَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ، وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَأَجَازُوا لِلْحَائِضِ الْقِرَاءَةَ الْقَلِيلَةَ اسْتِحْسَانًا؛ لِطُولِ مَقَامِهَا حَائِضًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ الْجَنَابَةِ.

.أَحْكَامُ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنَ الرَّحِمِ:

وَأَمَّا أَحْكَامُ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنَ الرَّحِمِ:
فَالْكَلَامُ الْمُحِيطُ بِأُصُولِهَا يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ:
الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ أَنْوَاعِ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنَ الرَّحِمِ.
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى انْتِقَالِ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، وَالْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ أَوْ الِاسْتِحَاضَةِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ أَيْضًا إِلَى الطُّهْرِ.
وَالثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ: (أَعْنِي مَوَانِعَهُمَا وَمُوجِبَاتِهِمَا).
وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ لِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا قَصَدْنَا إِلَيْهِ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: أَنْوَاعُ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنَ الرَّحِمِ:

اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الدِّمَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ ثَلَاثَةٌ: دَمُ حَيْضٍ تعريفه، وَهُوَ الْخَارِجُ عَلَى جِهَةِ الصِّحَّةِ، وَدَمُ اسْتِحَاضَةٍ تعريفه، وَهُوَ الْخَارِجُ عَلَى جِهَةِ الْمَرَضِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ دَمِ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ». وَدَمُ نِفَاسٍ، وَهُوَ الْخَارِجُ مَعَ الْوَلَدِ.

.الْبَابُ الثَّانِي: عَلَامَاتُ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ:

أَمَّا مَعْرِفَةُ عَلَامَاتِ انْتِقَالِ هَذِهِ الدِّمَاءِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَانْتِقَالِ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، وَالْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ تَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ أَيَّامِ الدِّمَاءِ الْمُعْتَادَةِ، وَأَيَّامِ الْأَطْهَارِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ وَهِيَ سَبْعُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [مُدَّةُ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَأَقَلِّهَا، وَأَقَلِّ أَيَّامِ الطُّهْرِ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَكْثَرَ أَيَّامِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَمَّا أَقَلُّ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَلَا حَدَّ لَهَا عِنْدَ مَالِكٍ، بَلْ قَدْ تَكُونُ الدُّفْعَةُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَهُ حَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِهَا فِي الْأَقْرَاءِ فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا أَقَلُّ الطُّهْرِ فَاضْطَرَبَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، وَرُوِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ أَقْصَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ فِيمَا أَحْسَبُ.
وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ حَدٌّ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْضُوعًا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ، فَمَنْ كَانَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ عِنْدَهُ قَدْرٌ مَعْلُومٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ إِذَا وَرَدَ فِي سِنِّ الْحَيْضِ عِنْدَهُ اسْتِحَاضَةً، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ عِنْدَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدُّفْعَةُ عِنْدَهُ حَيْضًا، وَمَنْ كَانَ أَيْضًا عِنْدَهُ أَكْثَرُهُ مَحْدُودًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ عِنْدَهُ اسْتِحَاضَةً، وَلَكِنْ مُحَصِّلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النِّسَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُبْتَدَأَةٌ وَمُعْتَادَةٌ. فَالْمُبْتَدَأَةُ حيضها: تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِرُؤْيَةِ أَوَّلِ دَمٍ تَرَاهُ إِلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ صَلَّتْ، وَكَانَتْ مُسْتَحَاضَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: تُصَلِّي مِنْ حِينِ تَتَيَقَّنَ الِاسْتِحَاضَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُعِيدُ صَلَاةَ مَا سَلَفَ لَهَا مِنَ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَهُ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَقِيلَ عَنْ مَالِكٍ: بَلْ تَعْتَدُّ أَيَّامَ لِدَاتِهَا، ثُمَّ تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعِ الدَّمُ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ.
وَأَمَّا الْمُعْتَادَةُ مدة حيضها: فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ:
إِحْدَاهُمَا: بِنَاؤُهَا عَلَى عَادَتِهَا، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَتَجَاوَزْ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ.
وَالثَّانِيَةُ: جُلُوسُهَا إِلَى انْقِضَاءِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ، أَوْ تَعْمَلُ عَلَى التَّمْيِيزِ إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَعْمَلُ عَلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا. وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ لَا مُسْتَنَدَ لَهَا إِلَّا التَّجْرِبَةُ وَالْعَادَةُ، وَكُلٌّ إِنَّمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ مَا ظَنَّ أَنَّ التَّجْرِبَةَ أَوْقَفَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِاخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ عَسُرَ أَنْ يُعْرَفَ بِالتَّجْرِبَةِ حُدُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي أَكْثَرِ النِّسَاءِ، وَوَقَعَ فِي ذَلِكَ هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَأَجْمَعُوا بِالْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الدَّمَ إِذَا تَمَادَى أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ: «فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» وَالْمُتَجَاوِزَةُ لِأَمَدِ أَكْثَرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ قَدْ ذَهَبَ عَنْهَا قَدْرُهَا ضَرُورَةً. وَإِنَّمَا صَارَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُعْتَادَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عَادَتِهَا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لِتَنْظُرْ إِلَى عَدَدِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لْتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ، ثُمَّ لْتُصَلِّي» فَأَلْحَقُوا حُكْمَ الْحَائِضِ الَّتِي تَشُكُّ فِي الِاسْتِحَاضَةِ بِحُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي تَشُكُّ فِي الْحَيْضِ، وَإِنَّمَا رَأَى أَيْضًا فِي الْمُبْتَدَأَةِ أَنْ تَعْتَبِرَ أَيَّامَ لِدَاتِهَا، لِأَنَّ أَيَّامَ لِدَاتِهَا شَبِيهَةٌ بِأَيَّامِهَا فَجُعِلَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا.
وَأَمَّا الِاسْتِظْهَارُ الَّذِي قَالَ بِهِ مَالِكٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَهُوَ شَيْءٌ انْفَرَدَ بِهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَا عَدَا الْأَوْزَاعِيَّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ ذِكْرٌ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [الْحَيْضَةُ الْمُتَقَطِّعَةُ مدتها والطهر منها]:

ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْحَائِضِ الَّتِي تَنْقَطِعُ حَيْضَتُهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَحِيضَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَتَطْهُرَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَى أَنَّهَا تَجْمَعُ أَيَّامَ الدَّمِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتُلْغِي أَيَّامَ الطُّهْرِ وَتَغْتَسِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَرَى فِيهِ الطُّهْرَ أَوَّلَ مَا تَرَاهُ وَتُصَلِّي، فَإِنَّهَا لَا تَدْرِي لَعَلَّ ذَلِكَ طُهْرٌ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَهَا مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ وَتَعْتَبِرُ ذَلِكَ أَيَّامَ عَادَتِهَا فَإِنْ سَاوَتْهَا اسْتَظْهَرَتْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. وَجَعْلُ الْأَيَّامِ الَّتِي لَا تَرَى فِيهَا الدَّمَ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعَدَدِ لَا مَعْنًى لَهُ، فَإِنَّهُ لَا تَخْلُو تِلْكَ الْأَيَّامُ أَنْ تَكُونَ أَيَّامَ حَيْضٍ أَوْ أَيَّامَ طُهْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامَ حَيْضٍ، فَيَجِبُ أَنْ تُلَفِّقَهَا إِلَى أَيَّامِ الدَّمِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامَ طُهْرٍ، فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ تُلَفِّقَ أَيَّامَ الدَّمِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَخَلَّلَهَا طُهْرٌ، وَالَّذِي يَجِيءُ عَلَى أُصُولِهِ أَنَّهَا أَيَّامُ حَيْضٍ لَا أَيَّامُ طُهْرٍ إِذْ أَقَلُّ الطُّهْرِ عِنْدَهُ مَحْدُودٌ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنَ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْحَقُّ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ، وَدَمَ النِّفَاسِ يَجْرِي ثُمَّ يَنْقَطِعُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَعُودُ حَتَّى تَنْقَضِيَ أَيَّامُ الْحَيْضِ أَوْ أَيَّامُ النِّفَاسِ كَمَا تَجْرِي سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ مِنَ النَّهَارِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [مُدَّةُ النِّفَاسِ]:

اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ وَأَكْثَرِهِ. فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَحْدُودٌ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ صَاحِبُهُ: أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عِشْرُونَ يَوْمًا.
وَأَمَّا أَكْثَرُهُ النفاس فَقَالَ مَالِكٌ مَرَّةً: هُوَ سِتُّونَ يَوْمًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ النِّسَاءُ، وَأَصْحَابُهُ ثَابِتُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ قِيلَ تَعْتَبِرُ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ أَيَّامَ أَشْبَاهِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَإِذَا جَاوَزَتْهَا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ وِلَادَةِ الذَّكَرِ وَوِلَادَةِ الْأُنْثَى، فَقَالُوا: لِلذَّكَرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَلِلْأُنْثَى أَرْبَعُونَ يَوْمًا.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: عُسْرُ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سُنَّةٌ يُعْمَلُ عَلَيْهَا كَالْحَالِ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [الدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ نوعه ومدته]:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا هَلِ الدَّمُ الَّذِي تَرَى الْحَامِلُ هُوَ حَيْضٌ أَمِ اسْتِحَاضَةٌ؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَأَنَّ الدَّمَ الظَّاهِرَ لَهَا دَمُ فَسَادٍ وَعِلَّةٍ، إِلَّا أَنْ يُصِيبَهَا الطَّلْقُ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ دَمُ نِفَاسٍ، وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْحَيْضِ فِي مَنْعِهِ الصَّلَاةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلِمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِقَالِ الْحَائِضِ الْحَامِلِ إِذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ إِلَى حُكْمِ الِاسْتِحَاضَةِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَائِضِ نَفْسِهَا، (أَعْنِي: إِمَّا أَنْ تَقْعُدَ أَكْثَرَ أَيَّامِ الْحَيْضِ، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَإِمَّا أَنْ تَسْتَظْهِرَ عَلَى أَيَّامِهَا الْمُعْتَادَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) وَقِيلَ: إِنَّهَا تَقْعُدُ حَائِضًا ضِعْفَ أَكْثَرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تُضَعِّفُ أَكْثَرَ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِعَدَدِ الشُّهُورِ الَّتِي مَرَّتْ لَهَا. فَفِي الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ حَمْلِهَا تُضَعِّفُ أَيَّامَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي الثَّالِثِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي الرَّابِعِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَتِ الْأَشْهُرُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: عُسْرُ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَاخْتِلَاطُ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ مَرَّةً يَكُونُ الدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ دَمَ حَيْضٍ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ قُوَّةُ الْمَرْأَةِ وَافِرَةً وَالْجَنِينُ صَغِيرًا، وَبِذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَمْلٌ عَلَى حَمْلٍ عَلَى مَا حَكَاهُ بُقْرَاطُ وَجَالِينُوسُ وَسَائِرُ الْأَطِبَّاءِ، وَمَرَّةً يَكُونُ الدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ لِضَعْفِ الْجَنِينِ وَمَرَضِهِ التَّابِعِ لِضَعْفِهَا وَمَرَضِهَا فِي الْأَكْثَرِ، فَيَكُونُ دَمَ عِلَّةٍ وَمَرَضٍ، وَهُوَ فِي الْأَكْثَرِ دَمُ عِلَّةٍ.

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [هَلِ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ حَيْضٌ]:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ هَلْ هِيَ حَيْضٌ أَمْ لَا؟
فَرَأَتْ جَمَاعَةٌ أَنَّهَا حَيْضٌ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْهُ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ حَيْضٌ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَفِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ رَأَتْ ذَلِكَ مَعَ الدَّمِ أَمْ لَمْ تَرَهُ. وَقَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الصُّفْرَةَ، وَالْكُدْرَةَ لَا تَكُونُ حَيْضَةً إِلَّا بِأَثَرِ الدَّمِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَلَا الْكُدْرَةَ بَعْدَ الْغُسْلِ شَيْئًا، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ إِلَيْهَا بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ يَسْأَلْنَهَا عَنِ الصَّلَاةِ، فَتَقُولُ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ. فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَائِشَةَ جَعَلَ الصُّفْرَةَ، وَالْكُدْرَةَ حَيْضًا، سَوَاءٌ ظَهَرَتْ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ أَوْ فِي غَيْرِ أَيَّامِهِ مَعَ الدَّمِ أَوْ بِلَا دَمٍ، فَإِنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ يَخْتَلِفُ، وَمَنْ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ قَالَ: إِنَّ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ هُوَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي أَثَرِ انْقِطَاعِهِ، أَوْ إِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ هُوَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَحَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَلَمْ يَرَوُا الصُّفْرَةَ، وَلَا الْكُدْرَةَ شَيْئًا لَا فِي أَيَّامِ حَيْضٍ، وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَلَا بِأَثَرِ الدَّمِ، وَلَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَمُ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ»، وَلِأَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ لَيْسَتْ بِدَمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ سَائِرِ الرُّطُوبَاتِ الَّتِي تُرْخِيهَا الرَّحِمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ.

.الْمَسْأَلَةُ السّادِسَةُ [عَلَامَةُ الطُّهْرِ]:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَلَامَةِ الطُّهْرِ من الحيض، فَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ عَلَامَةَ الطُّهْرِ رُؤْيَةُ الْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ أَوِ الْجُفُوفِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ عَادَتُهَا أَنْ تَطْهُرَ بِالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ أَوْ بِالْجُفُوفِ أَيُّ ذَلِكَ رَأَتْ طَهُرَتْ بِهِ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ تَرَى الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ فَلَا تَطْهُرُ حَتَّى تَرَاهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَرَاهَا فَطُهْرُهَا الْجُفُوفُ، وَذَلِكَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَاعَى الْعَادَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَاعَى انْقِطَاعَ الدَّمِ فَقَطْ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّتِي عَادَتُهَا الْجُفُوفُ تَطْهُرُ بِالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ وَلَا تَطْهُرُ الَّتِي عَادَتُهَا الْقَصَّةُ الْبَيْضَاءُ بِالْجُفُوفِ وَقَدْ قِيلَ بِعَكْسِ هَذَا وَكُلُّهُ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ.

.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ [الْمُسْتَحَاضَةُ]:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ مَتَى يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْحَائِضِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْحَائِضِ إِذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ مَتَى يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ أَبَدًا: حُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَةِ إِلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ الدَّمُ إِلَى صِفَةِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ إِذَا مَضَى لِاسْتِحَاضَتِهَا مِنَ الْأَيَّامِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَقَلِّ أَيَّامِ الطُّهْرِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ حَائِضًا (أَعْنِي: إِذَا اجْتَمَعَ لَهَا هَذَانِ الشَّيْئَانِ تَغَيُّرُ الدَّمِ وَأَنْ يَمُرَّ لَهَا فِي الِاسْتِحَاضَةِ مِنَ الْأَيَّامِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ أَبَدًا). وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَقْعُدُ أَيَّامَ عَادَتِهَا إِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً قَعَدَتْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَعْمَلُ عَلَى التَّمْيِيزِ إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعَادَةِ عَمِلَتْ عَلَى الْعَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِمَا مَعًا فَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: تَعْمَلُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالثَّانِي: عَلَى الْعَادَةِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهَا - وَكَانَتْ مُسْتَحَاضَةً - أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ قَدْرَ أَيَّامِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّي» وَفِي مَعْنَاهُ أَيْضًا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي خَرَّجَهُ مَالِكٌ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّهَا كَانَتِ اسْتُحِيضَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دَمَ الْحَيْضَةِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوْضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ.
فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ تَرْجِيحِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ قَالَ بِاعْتِبَارِ الْأَيَّامِ، وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْأَيَّامِ فَقَطْ فِي الْحَائِضِ الَّتِي تَشُكُّ فِي الِاسْتِحَاضَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي تَشُكُّ فِي الْحَيْضِ (أَعْنِي: لَا عَدَدَهَا وَلَا مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّهْرِ إِذَا كَانَ عِنْدَهَا ذَلِكَ مَعْلُومًا) وَالنَّصُّ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي تَشُكُّ فِي الْحَيْضِ، فَاعْتَبَرَ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا غَرِيبٌ فَتَأَمَّلْهُ. وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ قَالَ بِاعْتِبَارِ اللَّوْنِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ رَاعَى مَعَ اعْتِبَارِ لَوْنِ الدَّمِ مُضِيَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا مِنْ أَيَّامِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ قَالَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ هُوَ فِي الَّتِي تَعْرِفُ عَدَدَ أَيَّامِهَا مِنَ الشَّهْرِ وَمَوْضِعَهَا. وَالثَّانِي فِي الَّتِي لَا تَعْرِفُ عَدَدَهَا وَلَا مَوْضِعَهَا، وَتَعْرِفُ لَوْنَ الدَّمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ، وَلَا تَعْرِفُ مَوْضِعَ أَيَّامِهَا مِنَ الشَّهْرِ، وَتَعْرِفُ عَدَدَهَا أَوْ لَا تَعْرِفُ عَدَدَهَا أَنَّهَا تَتَحَرَّى عَلَى حَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي» وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ عِنْدَ حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي الطُّهْرِ. فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ، وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ وَاقِعَةٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ انْتِقَالِ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ انْتِقَالِ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ، وَالثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ انْتِقَالِ الْحَيْضِ إِلَى الِاسْتِحَاضَةِ، وَالرَّابِعُ: مَعْرِفَةُ انْتِقَالِ الِاسْتِحَاضَةِ إِلَى الْحَيْضِ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَمَسْكُوتٌ عَنْهَا (أَعْنِي: عَنْ تَحْدِيدِهَا) وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي انْتِقَالِ النِّفَاسِ إِلَى الِاسْتِحَاضَةِ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الْآيَةَ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا. وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: فِعْلُ الصَّلَاةِ وَوُجُوبُهَا (أَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ).
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَمْنَعُ فِعْلَ الصَّوْمِ ما يحرم بالحيض لَا قَضَاءَهُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» وَإِنَّمَا قَالَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ.
وَالثَّالِثُ - فِيمَا أَحْسَبُ - الطَّوَافُ للحائض؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ حِينَ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَفْعَلَ كُلَّ مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ.
وَالرَّابِعُ: الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ ما يحرم بالحيض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} الْآيَةَ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَحْكَامِهَا فِي مَسَائِلَ نَذْكُرُ مِنْهَا مَشْهُورَاتِهَا، وَهِيَ خَمْسٌ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [مُبَاشَرَةُ الْحَائِضِ]:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ وَمَا يُسْتَبَاحُ مِنْهَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ مِنْهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ فَقَطْ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ: إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَوْضِعَ الدَّمِ فَقَطْ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي مَفْهُومِ آيَةِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَيْمُونَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْمُرُ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُنَّ حَائِضًا أَنْ تَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا، ثُمَّ يُبَاشِرَهَا، وَوَرَدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ بِالْحَائِضِ إِلَّا النِّكَاحَ» وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا، وَهِيَ حَائِضٌ «اكْشِفِي عَنْ فَخِذِكِ، قَالَتْ: فَكَشَفْتُ، فَوَضَعَ خَدَّهُ وَصَدْرَهُ عَلَى فَخِذِي، وَحَنَيْتُ عَلَيْهِ حَتَّى دَفِئَ، وَكَانَ قَدْ أَوْجَعَهُ الْبَرْدُ».
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي آيَةِ الْحَيْضِ، فَهُوَ تَرَدُّدُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} بَيْنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْعَامِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى} وَالْأَذَى إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الدَّمِ، فَمَنْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَهُ الْعُمُومَ (أَعْنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يُخَصِّصَهُ الدَّلِيلُ، اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ بِالسُّنَّةِ، إِذِ الْمَشْهُورُ جَوَازُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ) وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ رَجَّحَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْآثَارِ الْمَانِعَةِ مِمَّا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَقَوِيَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالْآثَارِ الْمُعَارِضَةِ لِلْآثَارِ الْمَانِعَةِ مِمَّا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ، وَبَيْنَ مَفْهُومِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الْوَارِدُ فِيهَا وَهُوَ كَوْنُهُ أَذًى، فَحَمَلَ أَحَادِيثَ الْمَنْعِ لِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَأَحَادِيثَ الْإِبَاحَةِ وَمَفْهُومَ الْآيَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَرَجَّحُوا تَأْوِيلَهُمْ هَذَا بِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِسْمِ الْحَائِضِ شَيْءٌ نَجِسٌ إِلَّا مَوْضِعُ الدَّمِ، وَذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَائِشَةَ أَنْ تُنَاوِلَهُ الْخُمْرَةَ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» وَمَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ تَرْجِيلِهَا رَأْسَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهِيَ حَائِضٌ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ».

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [وَطْءُ الْحَائِضِ فِي طُهْرِهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ]:

اخْتَلَفُوا فِي وَطْءِ الْحَائِضِ فِي طُهْرِهَا، وَقَبْلَ الِاغْتِسَالِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا طَهُرَتْ لِأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَهُوَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهَا إِنْ غَسَلَتْ فَرَجْهَا بِالْمَاءِ جَازَ وَطْؤُهَا (أَعْنِي كُلَّ حَائِضٍ طَهُرَتْ مَتَى طَهُرَتْ) وَبِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} هَلِ الْمُرَادُ بِهِ الطُّهْرُ الَّذِي هُوَ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ أَمِ الطُّهْرُ بِالْمَاءِ؟
، ثُمَّ إِنْ كَانَ الطُّهْرَ بِالْمَاءِ، فَهَلِ الْمُرَادُ بِهِ طُهْرُ جَمِيعِ الْجَسَدِ أَمْ طُهْرُ الْفَرْجِ؟
فَإِنَّ الطُّهْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَعُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُقَالُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَعَانِي، وَقَدْ رَجَّحَ الْجُمْهُورُ مَذْهَبَهُمْ بِأَنَّ صِيغَةَ التَّفَعُّلَ إِنَّمَا تَنْطَلِقُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ، لَا عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَظْهَرَ فِي مَعْنَى الْغُسْلِ بِالْمَاءِ مِنْهُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي هُوَ انْقِطَاعُ الدَّمِ، وَالْأَظْهَرُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَرَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ لَفْظَ يَفْعُلْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} هُوَ أَظْهَرُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي هُوَ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ مِنْهُ فِي التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ. وَالْمَسْأَلَةُ كَمَا تَرَى مُحْتَمِلَةٌ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ لَفْظِ الطُّهْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} مَعْنًى وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَنْ يَفْهَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لِأَنَّهُ مِمَّا لَيْسَ يُمْكِنُ أَوْ مِمَّا يَعْسُرُ أَنْ يُجْمَعَ فِي الْآيَةِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مُخْتَلِفَيْنِ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْ لَفْظَةِ {يَطْهُرْنَ} النَّقَاءُ، وَيُفْهَمَ مِنْ لَفْظِ {تَطَهَّرْنَ} الْغُسْلُ بِالْمَاءِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمَالِكِيِّينَ فِي الِاحْتِجَاجِ لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا لَا تُعْطِ فُلَانًا دِرْهَمًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، بَلْ إِنَّمَا يَقُولُونَ: وَإِذَا دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَفْهُومِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَمَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} عَلَى أَنَّهُ النَّقَاءُ، وَقَوْلَهُ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} عَلَى أَنَّهُ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لَا تُعْطِ فُلَانًا دِرْهَمًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَفْهُومٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَتَطَهَّرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، وَفِي تَقْدِيرِ هَذَا الْحَذْفِ بُعْدٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: ظُهُورُ لَفْظِ التَّطَهُّرِ فِي مَعْنَى الِاغْتِسَالِ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا يُعَارِضُهُ ظُهُورُ عَدَمِ الْحَذْفِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ الْحَذْفَ مَجَازٌ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَظْهَرُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، وَكَذَلِكَ فَرْضُ الْمُجْتَهِدِ هُنَا إِذَا انْتَهَى بِنَظَرِهِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُوَازِنَ بَيْنَ الظَّاهِرَيْنِ، فَمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ عَمِلَ عَلَيْهِ (وَأَعْنِي بِالظَّاهِرَيْنِ أَنْ يُقَايِسَ بَيْنَ ظُهُورِ لَفْظِ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فِي الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ وَظُهُورِ عَدَمِ الْحَذْفِ فِي الْآيَةِ) إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَحْمِلَ لَفْظَ تَطَهَّرْنَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ النَّقَاءِ، فَأَيُّ الظَّاهِرَيْنِ كَانَ عِنْدَهُ أَرْجَحَ عَمِلَ عَلَيْهِ (أَعْنِي إِمَّا أَنْ لَا يُقَدِّرَ فِي الْآيَةِ حَذْفًا وَيَحْمِلَ لَفْظَ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} عَلَى النَّقَاءِ أَوْ يُقَدِّرَ فِي الْآيَةِ حَذْفًا وَيَحْمِلَ لَفْظَ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} عَلَى الْغُسْلِ بِالْمَاءِ، أَوْ يُقَايِسَ بَيْنَ ظُهُورِ لَفْظِ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فِي الِاغْتِسَالِ وَظُهُورِ يَطْهُرْنَ فِي النَّقَاءِ) فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَظْهَرَ أَيْضًا صَرَفَ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ الثَّانِي لَهُ وَعَمِلَ عَلَى أَنَّهُمَا يَدُلَّانِ فِي الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ (أَعْنِي: إِمَّا عَلَى مَعْنَى النَّقَاءِ وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ) وَلَيْسَ فِي طِبَاعِ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَتَأَمَّلْهُ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَضَعِيفٌ.